من ذاكرة المدينة (4)
الألعاب
( طوط أخرس)
لا أريد أن أكتب في التاريخ، وإنما أريد من هذا الموضوع أن أبين بعض الأمور التي لم أقرأها ولم أتحدث بها سابقاً، وإنما هي من البدهيات التي يعرفها الصغير قبل الكبير ولم آتي بالعجب.
في كل بلد من بلاد الله الواسعة لابد للناس من وسيلة يشغلون بها أوقاتهم، ويملؤون فراغهم، هذه الوسيلة تنسيهم همومهم، وتريح كاهلهم، وبالنسبة للأطفال تملأ وقتهم بشيء ربما هو نافع لأجسامهم، هذه الوسيلة هي الألعاب.
وكما تعلمون ـ سلمكم الله ـ أن هناك ألعاباً لا تقتصر على الأطفال، بل حتى الكبار يعرفونها ويمارسونها.
وسأحاول في هذه العجالة أن أتذكر بعضاً من تلك الأعاب التي كنا نلعبها في البوكمال، أو رأيت غيري يلعبها.
أولاً
الطوط أخرس
بالطبع لم أكن من أبطالها ولا من فوارسها المقدمين، وإنما كنت أنضم للفريق تكملة للعدد فقط، وأنا أول المطرودين منها خائبين، هذه اللعبة تتطلب قوة بدينة ونفسية كبيرتين، مبدأ اللعبة ينبني على الآتي:
يقسم أولاد الحارة أنفسهم إلى فريقين، كل فريق مساو في العدد للفريق الآخر، فقد يكونون خمسة بخمسة ، أو ستة بستة ، أو حتى سبعة بسبعة، كل فريق يحاول أن يأتي بأضخم شاب بالحارة وأقواهم ليكون ضمن فريقه.
تخطط أرضية الشارع على شكل مربعين متجاورين يفصل بينهما خط واضح، ولكل فريق مربعه الذي لا يمكن أن يتجاوزه أثناء اللعب.
يدخل أحد أعضاء الفريق الأول إلى مربع الفريق الثاني ويقول: انقطع الكلام، بمعنى أنه ابتدأ وقت الجد ولا مجال للمزح، وهنا بالحقيقة سيكون إما قاتلاً أو مقتولاً وهو الأغلب، في هذه الحالة لا يسمح للمهاجم بالكلام أبداً، وإذا ما تكلم فقد خسر وخرج من اللعبة، وبالتالي يكون فريقه قد خسر عنصراً من عساكره، وبطلاً من صناديده.
وهو والحالة هذه يدخل إلى ساحة المعركة محاولاً أن يلمس أي شخص من الفريق الآخر، وأي شخص يلمسه هذا المهاجم ويعود سليماً إلى مربعه دون أن ينبس ببنت شفة فهذا معناه أن الشخص الملموس قد خرج من اللعبة، وقد يكون أكثر من شخص واحد أو اثنين أو الفريق كله.
أما الفريق الآخر فهو يحاول الإمساك بهذا الشخص المهاجم، وهم أمام خيارين:
1. إما أن يجبروه على الكلام، حتى لو تطلب الأمر استخدام بعض الوسائل كالضرب والسحل والدعكلة والقرص والدغدغة وملء الفم بالتراب، لابد من الكلام، لا يوجد حل، وإلا إذا كان قد مُسك من الجميع وعاد إلى مربعه دون ذلك فقد خرج كل الفريق من اللعبة وكسر عينهم، بمعنى أنهم قد خسروا الجولة، وكل جولة بنقطة. ووالله لقد رأيت بعضهم يدخل إلى مربع الخصم وإن الخصوم لتهرب من هذا المهاجم الشرس، لماذا؟ لأنه لن يلمس عدوه وإنما سيضربه بقوة حتى يتمكن من شله فلا يستطيع الإمساك به؛ ورأيت بعضهم ممن أوتي القوة والجلد والصبر يُضرب ويُملأ فمه بالتراب ووالله لا ينطق بحرف، وإنما يقاوم ويقاوم حتى يستطيع الإفلات.
2. الأمر الآخر هو أن يُحمل ذلك المهاجم ويرمى خارج مربع العدو. فبذلك يكون من الخاسرين.
ثم يدخل مهاجم آخر من الفريق الثاني وهلم جراً، إلى أن يخرج كل عناصر أحد الفريقين ويبقى ولو عنصراً واحداً من الفريق الآخر.
وإذا ما دخل مهاجم ولمس بعض الأشخاص وقبل أن يدخل مربعه مُسك من قبل الفريق المهجوم عليهم فإنه سيقع بين نارين، ستقولون كيف؟
وأنا سأجيبكم فهذا من حقكم:
فريقه سيحاول مساعدته ليعيده إلى وطنه دون أن يجاوز حدود مربعه، فيمسك بتلاببيبه، بيده، برجله برأسه ومن رقبته، ومن كلابيته ( وياما تكشمت كلابيت وأكلنا قتل بالبيت بعد قتلة الطوط أخرس)، والفريق الآخر سيحاول الإمساك بهذا الغريب وإعادته إلى مربعه حتى لا يخرج إلا وقد أكل من القتل ما يستحقه أو يتكلم أو يرمى خارجاً، هذه هي الحلول المتوافرة فقط لا غير.
ولقد كنا نلعب في يوم من الأيام هذه اللعبة على شط النهر نهرنا العظيم الفرات، وأظن أن أبو محمد كان معنا، وكان المهاجم نجم، قد دخل على الفريق الخصم، فحالوا إخافته ليكسروا عزيمته، لكنه كان مصراً على الخروج بغنيمة ولو عنصرا واحداً ضعيفاً مثل محدثكم، ونجم هذا شاب طويل ونحيف، هجم هجمة سريعة على الخصم فلمس أغلبهم ثم حاول الهرب، وضع له أحدهم وأظنه مجحم رجله أمامه (حط له عرقول) فتدعكل على التراب، يداه ورأسه عند فريقه، ورجلاه وباقي جسمه عند خصمه، وصار كل طرف يشد به إلى طرفه، في ذلك الوقت خُيِّل لي أن نجماً هذا صار طوله خمسة أمتار من شدة المد والجزر من الجانبين، وفي النهاية صار يصيح ويستغيث ويطلب النجدة: ( حشيت حشييييييييييت خلااااااااااص تكلممممممممممت فلتوووووووووووووني دخيييييييل الللللللله ، منشان االملائكة) ولم يفتلوه إلا من شدة الضحك وغلبته عليهم.
هذا هو الطوط أخرس بقوانينه على ما اتذكر .
والأكيد أن أبو حسان له ذكريات معه، قد يتحفنا بها في هذا الباب.
وسأحاول في مناسبة أخرى أن أكتب عن لعبة أخرى؛ لأنني فيما يبدو لي أنني طولت كثيرا وأسهبت في الحديث فسامحوني على الإطالة...