موضوع: دفتر حاج نوري دفتر حاج نوري I_icon_minitimeالإثنين 28 سبتمبر - 4:14
عندما تنقلب البساطة والطيبة والمحبة والايمان في قلب شخص ما......
فقد تتحول هذه الصفات الجميلة والرائعة الى مأساة حقيقية...
لأن الافراط في الوداعة والثقة العمياء يؤديان الى ما لا تحمد عقباه ,
وهذا ما حصل لبطل قصتنا اليوم الذي رمزت اليه باسم ( الحاج نوري )).
والذي احتل دفتره العجيب صفحة جميلة وممتعة وطريفة من تراثنا البوكمالي الخالد.
اليكم القصة التي قمت بكتابتها بتصرف....واتمنى ان تكون اضافتي لا تفسد معناها .
فالحاج نوري تاجر في سوق البوكمال....
يبيع القماش في الخمسينات من القرن الماضي...
ويبيع لوازم البدو الرحل من خيام وحبال وراويات ماء وغيرها...
كان طيبا وعفويا ومتسامحا ومحبا للخير بشكل مذهل...
يثق بكل الناس من غير تردد.....
يكفي للزبون ان يقول له :
السلام عليكم يا حجي...الله يرحم والديك ويطول عمرك...
فيدخل هذا الزبون في قائمة الاصدقاء المقربين في عالم حاج نوري الطيب.
يأتيه الزبون ويطلب منه قطعة قماش لتفصيل ثوب او جلابية فيرحب به الحاج نوري بحرارة.
ويعرض عليه طابات القماش المتوفرة بذلك الوقت...وكلها صناعة حلب..
بوبلين...ناشوري....فانيلا....خام ابو العرضين...شيت....صوف ..قطن...كودري..
قماش أكلك منين يا بطة؟؟
قماش -- اسمح لي يا بابا..
قماش مقصب..
قماش يرير...وحرير.
مجموعة هائلة من المصنوعات الوطنية الممتازة.
فيقع اختيار الزبون على نوع معيّن فيضع الحاج نوري طابة القماش على الطاولة الخشبية.
استعدادا لبدء القص..
-- كم ذراع تريد؟؟؟؟
الزبون: -- عشرة اذرع.
(( الذراع حوالي سبعين سم وقد كان تجار القماش ولا يزال البعض منهم يستخدم في القياس
قطعة حديد مبسّطة بطول متر واحد يتم تأشيرها وترقيمها عند ربع المتر,
ونصف المتر...والذراع... وثلاثة ارباع المتر ...والمتر الكامل.)).
وبعض التجار كانوا يستخدمون ذراعهم الحقيقي للقياس...
فيضعون اصبع السبّابة في بداية قطعة القماش ثم يضعون نقطة ثانية في رمانة الكتف .
وينم احتساب الطول حسب رموز واضافات للرقم الصحيح مستقاة من عمق التراث.
مثلا عندما يبتديء بالرقم واحد يقول:
- واحد ...مالو ثاني..
- اثنين ..يا موفي الدين.
- ثلاثة ...على الله الثبات.
- اربعة....والعجوز مطرقعة.
- خمسة....خشمك بالدبس منغمسة..
- ستة.....والستار الله.
- سبعة..... يسبع العدو...
وهكذا تستمر ملحمة الارقام المدمجة بنكهة التراث والتاريخ.
وعندما ينتهي من القياس يقول للزبون :
- مبروك...انشالله ملبوس الهنا...وتهرّ!يها بالعافية.
فيرد الزبون:
- الله يبارك لك ويرحم والديك.....
يضعها الحاج نوري في كيس ويعطيها للزبون الذي يقول له:
- انشالله يا حجي هاليومين بس ابيع البقرة تجيك فلوسك عالدكان....
فيقاطعه الحاج نوري :
توكل بالله يا رجل...خذ راحتك..
لا تستعجل على كيفك....خو ما خلصت الدنيا...
فيذهب الزبون (( ولا اظنه يرجع بعد مئة عام )).
فالحاج نوري لا يعرفه...
ويخجل ان يقول له ما اسمك حتى يسجله بالدفتر...
ولم يترك الزبون اي اثر يدل عليه....
فيفتح الحاج نوري المسكين دفتره الكبير ويكتب على الشكل التالي:
عشرة اذرع من قماش الناشوري .
السعر ورقتين ونص.
كل ذراع بمجيدي...
((على واحد مربوع راعي شوارب خفيفة ولابس يشمغ ازرق..))
-- هذه مواصفات الرجل...
ثم يطبق الدفتر وينتقل الى زبونة اخرى:
- ها يما شرايدة؟؟؟
- والله حجي اريد لي لهالبنية اربع اذرع - اسمح لي يا بابا...
- ابشري يما حاضر...
ثم يحضر طابة القماش ويقص القطعة المطلوبة وبعد الانتهاء يقوم باضافة قطعة صغيرة
كعادته في كل قياس قائلا:
- وهاي الكمالة...(( الزوادة )).
فيفرح الزبون ويشكر الحجي الكريم ...
قالت المرأة وهي تستعد للخروج:
- ترى يا حجي راح يمر عليك رجلي وينطيك حقها...
فيرد حاج نوري:
- عيّني خير يا بنت اخوي...الدكان على حستبك..
امانة الله شكون ما تريدون تراني عمكم...
فتذهب المرأة ليفتح الدفتر ويسجل الطلبة التالية:
اربع اذرع قماش - اسمحلي يا بابا ..
السعر ورقة وربع..
(( وحدة مرة قايدة معاها بنت عمرها حوالي عشر سنوات.
المرأة لابسة عباية ولونها حنطي .. عليم الله ساكنة حوالي النبعية )).
ثم يغلق الدفتر ليستقبل احد البدو:
سلام عليكم...
- هلا والله ...هلا بوجه الخير...اشرايد يالاخو؟؟؟
- والله طال عمرك أبغى لفلوفة حبال للبيت المسوبع..
وابغى راوية مياه تكون ما عليها زود..
الحاج نوري:
- ابشر ..ابشر..
فيستلمها البدوي وقد وعد الحاج نوري بالمرور عليه في المرة القادمة للحساب..
فيقوم المسكين بالركض الى الدفتر ليكتب:
- حبال ليف وراوية ماء
السعر خمس ورقات ونص.
(( واحد بدوي...اظنه من بدو الشمال...يقول انه نازل حوالي الرتيمي وراح يمر بعد كم يوم تا يحاسبني))
ثم يغلق الدفتر...
مرت الايام ودفتر حاج نوري يجمع القاب بدون اسماء...
وهو كان رجل شايب ويتعدى الثمانين...
ذات صباح.....سمع البوكماليين المنادي ينادي في السوق:
انتقل الى رحمة الله الحاج نوري...انا لله وانا اليه راجعون..
مشى البوكماليين في جنازته بحزن والسنتهم تترحم على هذه الروح الحلال..
وبعد انتهاء مراسم العزاء...
جلس ابناؤه لاقتسام ثروة ابوهم المتوفي...
واول شيء فتحوه ليحسبوا الديون المستحقة لوالدهم...
فذهلوا عندما وجدوا الدفتر خاليا من أي اسم...
ولا يحتوي الدفتر الا على القاب:
- شاب اسمراني طويل..
- امرأة عورة...لابسة اسود.
- بدوي من ديرة ابن موينع.
- زلمة مدقوق على خده الايمن..
وهكذا......لم يحصل ابناؤه على اسمك واحد صحيح.
وطبعا:
مستحيل يرجع زبون ويعيد ما بذمته...فلا اثبات عليه.
وكنت لا الوم مختار السيد صالح عندما يشترط على من يسجل بالمنتدى.
ان يسجل بالاسم الصريح.. خوفا من ان يصبح المنتدى مثل دفتر حاج نوري..
بكل الاحوال:
ذاع خبر قصة دفتر حاج نوري...وتناقلته الالسن حتى اشتهر بالامثال:
مثل دفتر حاج نوري..
ودخل التاريخ والتراث من اوسع الابواب...
ولا يزال البوكماليين يتندرون بقصة الدفتر الطريفة.
اشكركم..
قراءة متعة
سعيد الرجيب
سوا مشان سوريا